الصهيونية ومعاداة السامية: وجهان لعملة واحدة
د. عبد الوهاب المسيري
صحيفة الاتحاد الإماراتية 7/5/2005
ينطلق الصهاينة مما يسمونه "القومية اليهودية" والإيمان بأن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم هم في واقع الأمر شعب عضوي مرتبط ارتباطاً عضوياً وحتمياً بأرض فلسطين أو "إرتس إسرائيل" في المصطلح الصهيوني. ولهذا فاليهود المنتشرون في شتى أنحاء العالم، والذي يُسمى "المنفى" أو "الشتات" أو "الدياسبورا" حسب المصطلح الصهيوني، لا يدينون بالولاء لأوطانهم التي يقيمون فيها، ويحنون بطبيعتهم إلى العودة إلى "وطنهم"، أي فلسطين، لأنهم يعرفون أن جوهرهم اليهودي لن يتحقق إلا هناك، وأن وجودهم في أوطانهم المختلفة هو وجود مؤقت. والنتيجة المنطقية لنقطة الانطلاق هذه هو المفهوم الصهيوني الذي يُسمى "نفي الدياسبورا" negation of the Diaspora، فكل إنجازات عصور الشتات (عبر تواريخ كل الجماعات اليهودية) من المنظور الصهيوني هي محض خيانة للروح اليهودية النقية وللجوهر اليهودي.
ولكل هذا، يحول الصهاينة يهود العالم إلى وسيلة في خدمة الوطن اليهودي القومي وليس إلى غاية لها قيمة في حد ذاتها، وهو ما عبر عنه المفكر الصهيوني "كلاتزكين" بقوله إن "الشتات في حد ذاته لا يستحق البقاء، لكنه قد يكون مفيداً كوسيلة". وقد أوضح الصهيوني الروسي "أهارون جوردون" القضية كلها حين قال إن "الدولة الصهيونية ستكون الوطن الأم ليهود العالم وتكون الجماعات اليهودية في الشتات مستعمرات لها".
ولكن رفض الشتات هو في واقع الأمر رفض ليهود العالم وعداء لهم، أي أنه في جوهره تعبير عن عداء جذري عنيف لليهود، وهو ما يُطلق عليه اسم "معاداة السامية". وقد وصف المتحدثون الصهاينة يهود الشتات بأنهم "لعنة إلى الأبد"، "مجرد غبار إنساني" و"دمار وانحلال وضعف أبدي". ويُعد مثل هذا الوصف السلبي ليهود العالم "يهود الشتات" أمراً جوهرياً بالنسبة للفكرة الصهيونية، لأنه إذا افترض أن حياة اليهود في أنحاء العالم "خارج إسرائيل" حياة نشطة لها نصيبها الطبيعي من السعادة والمعاناة الإنسانية، فماذا يكون إذن مبرر وجود الدولة الصهيونية؟ ولماذا توجد الصهيونية أصلاً بحديثها عن الوطن القومي وضرورة بل وحتمية "العودة" إليه؟
والواقع أن مثل هذه المقولات تقود بالضرورة إلى السقوط في حبائل معاداة السامية. وقد لاحظ الكاتب البريطاني "ج. ك. تشسترتون" (1847-1936) أن ما يُسمى معاداة السامية هو في واقع الأمر الصهيونية. فالصهيونية تقول إن اليهودي يهودي، والنتيجة المنطقية أنه ليس روسياً ولا فرنسياً ولا بريطانياً. وميزة هذا بالنسبة لليهودي أنه سيستعيد أرض الميعاد، أما بالنسبة لغير اليهود فهو التخلص من المسألة اليهودية "أي الفائض البشرى اليهودي" الذي لم يعد العالم الغربي في حاجة إليه.
ويرى الصهاينة أن وجود اليهود خارج وطنهم القومي المزعوم قد حولهم إلى شخصيات هامشية طفيلية غير منتجة، وإلى كائنات شاذة وغير طبيعية. وقد عبر الكاتب الصهيوني "حاييم برينر" عن هذه الأفكار الصهيونية بكلمات فظة حين وصف اليهود بأنهم "مرابون" و"شخصيات مريضة" يحيون مثل "الكلاب والنمل"، وبأنهم "غجر وكلاب جريحة قذرة"، يجمعون المال ويتبعون قيم السوق، ودعاهم إلى الاعتراف بوضاعتهم منذ فجر التاريخ حتى الوقت الحاضر، وأن يبدأوا بداية جديدة في الوطن القومي.
وقاموس الأوصاف المعادية للسامية ضخم وطويل في الأدبيات الصهيونية، فكلاتزكين يصف اليهود بأنهم شعب بلا جذور يعيش حياة زائفة. وتظهر نفس النغمة المعادية للسامية بوضوح في كتابات الكاتب الصهيوني "إسرائيل سنجر"، شقيق الكاتب المرموق إسحق أشيفيس سنجر. فاليهود، حسب تصوره، "شعب منحط قانط يحيا في القذارة"، وهم "مجموعة من آسيا" تحيا وسط أوروبا، وهم - ككيان مستقل - يمثلون "حدبة واحدة كبيرة". وفي مقال بعنوان "دمار الروح"، يورد يحزقيل كوفمان مجموعة من أوصاف اليهود في الكتابات الصهيونية، على الوجه التالي:
فريشمان: حياة اليهود حياة كلاب تثير الاشمئزاز.
برديشيفسكي: اليهود ليسوا أمة، ليسوا شعباً، وليسوا آدميين.
أ. د. جوردون: اليهود عبارة عن طفيليات - أناس لا فائدة منهم أساساً.
شوادرون: اليهود عبيد وبغايا ... أحد أنواع القذارة ... ديدان وطفيليات بخسة بلا جذور.
وهذه نغمة متكررة في أعمال هرتزل "الليبرالي"، كما في أعمال برينر غير الليبرالي. وإذا كان الأخير قد استخدم كلمات شديدة الواقع، فإن هرتزل هو الآخر - كما قال كاتب يهودي معاد للصهيونية - قد وضع قوالب معينة لو كان أي كاتب غير يهودي قد استخدمها لاتهم بلا جدال بعنصرية تعادل "بروتوكولات حكماء صهيون".
ويرى أحد المستوطنين الصهاينة قبل سنة 1948 أن معاداة السامية كانت أمراً "إيجابياً" إلى درجة دفعته إلى الاعتقاد بأنها "مستوحاة من عقيدة إلهية" إلى حد ما. وهو في هذا كان يردد، دون وعي، نفس آراء هرتزل الذي ادعى أن "معاداة السامية ربما تنطوي على إرادة الرب الإلهية، لأنها تجبرنا على توحيد صفوفنا". وفي مناظرة أُقيمت في الجامعة العبرية في فلسطين خلال الثلاثينيات بين هذا المستوطن وكوفمان، وصف المستوطن نفسه بأنه "صهيوني، معادٍ للسامية" ثم أضاف أنه "لم يستطع أن يرى كيف يمكن لأي صهيوني أن يتجنب اتخاذ نفس الموقف". وقد صرَّح هرتزل نفسه بأنه إذا لم يسلم الصهاينة بعدالة معاداة السامية، فإنهم ينكرون بذلك عدالة الصهيونية ذاتها.
وقد أدى قبول جوانب معينة من معاداة السامية إلى اعتبار المعادين للسامين حلفاء طبيعيين وقوة إيجابية للصهاينة في سعيهم من أجل "تحرير" يهود الشتات من عبوديتهم المزعومة. وبدلاً من أن يصارع هرتزل معاداة السامية، كان يرى أن "المعادين للسامية سيكونون أكثر أصدقاء يمكننا الاعتماد عليهم، وستكون الدول المعادية للسامية حليفة لنا". وقد أدرك منذ البداية التوازي القائم بين الصهيونية ومعاداة السامية، ورأى الإمكانيات الكامنة للتعاون بينهما.
وقد وضع هرتزل الخطوط العامة لتصوره للأنشطة الصهيونية المستقلة، فأشار إلى أن الخطوة التالية ستكون "بيع الصهيونية"، ثم أضاف بين قوسين أن هذا "لن يتكلف شيئاً، لأنه سيسعد المعادين للسامية". وفي فقرة أخرى من مذكراته عدَّد هرتزل عناصر الرأي العام العالمي التي يستطيع حشدها لمناصرته في قتاله ضد "سجن" اليهود، أي حياتهم في الشتات، فذكر من بينها المعادين للسامية كأحد العناصر التي يمكن أن تعمل نيابة عن اليهود.
وتكرر هذا التصور الخاص بالصورة المشتركة للصهاينة والمعادين للسامية في أقوال الزعماء الصهاينة في المراحل التالية. ففي سنة 1925، قال "كلاتزكين" إنه "بدلاً من إقامة جمعيات لمناهضة المعادين للسامية الذين يريدون الانتقاص من حقوقنا، يجدر بنا أن نقيم جمعيات لمناهضة أصدقائنا الراغبين في الدفاع عن حقوقنا".
وهذا الرأي الشاذ هو جزء من نمط إدراكي متكرر تضمنته الأيديولوجية والممارسات الصهيونية، وأكدت عليه مراراً وتكراراً. وكان آباء الصهاينة المؤسسون هم أول من طرحوه، ثم جاء أحفادهم في "إسرائيل" فحافظوا على استمراره بنفس القوة والحماس. ولعل آخر تبدٍّ لهذا الموقف هو تصريحات شارون التي حث فيها يهود فرنسا على الهجرة إلى "وطنهم القومي" لأن معاداة السامية ستلحق بهم إن عاجلاً أو آجلاً، وهو الأمر الذي رفضته غالبية يهود فرنسا، فهو بهذه الطريقة يشكك في ولائهم لوطنهم، ويقلل من قيمة إسهاماتهم وإنجازاتهم، ويحولهم من غاية إلى وسيلة. والسؤال الآن: هل سيطبق جورج بوش "قانون معاداة السامية" على هذا الجانب الجوهري في الفكر الصهيوني؟.
والله أعلم.
منقول